الحَمدُ للهِ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللهِ، وَأَشهَدُ أَن لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبدُهُ وَرَسُولُهُ، وَبَعدُ: فهذه مقتطفات من سيرةِ عَلَمٍ من أعلام هذه الأمة، وبَطَلٍ من أبطالها وفَارِسٍ من فرسانها، ولد رحمه الله سنة (532هـ)، في تكريت في العراق، وكان خليقًا للإمارة، مهيبًا شجاعًا حازمًا، مجاهدًا كثير الغزو، عالي الهمة، إنه الملك الناصر صلاح الدين الأيوبي أبو المظفر يوسف ابن الأمير نجم الدين أيوب بن شادي ابن مروان بن يعقوب الدويني ثم التكريتي المولد. قال الذهبي: "كانت له همة في إقامة الجهاد، وإبادة الأضداد ما سمع بمثلها في دهر، وكانت له اليد البيضاء، ببذل الأموال، والخيل المثمنة لجنده، وله عقل جيد، وفهم، وحزم، وعزم، كان نور الدين زنكي قد أمره وبعثه في عسكره إلى مصر مع عمه أسد الدين شيركوه، فحكم شيركوه مصر ثم توفي، فقام بعده صلاح الدين ودانت له العساكر، وقهر بني عبيد ومحى دولتهم، وفي سنة (583هـ) فتح طبرية، ونازل عسقلان ثم كانت وقعة حطين بينه وبين الفرنج، وكانوا أربعين ألفًا فحال بينهم وبين الماء على تل وسلموا أنفسهم وأُسرت ملوكهم، وبادر فأخذ عكا، وبيروت، وكوكب، وسار فحاصر القدس وَجَدَّ في ذلك، فأخذها بالأمان، ثم إن الإفرنج قامت قيامتهم على بيت المقدس وأقبلوا كقطع الليل المظلم برًّا وبحرًا، وأحاطوا بعكا ليستردوها وطال حصارهم لها وبنوا على أنفسهم خندقًا فأحاط بهم السلطان ودام الحصار لهم وعليهم نيفًا وعشرين شهرًا، وجرى في غضون ذلك ملاحم، وحروب تشيب لها النواصي". ومن أخباره التي تدل على شدته على الكفار، وغيرته على الإسلام، أنه لما أسر ملوك الأفرنج في معركة حطين، كان قد نذر أن يقتل أرناط وهو صاحب الكرك، فأسره يومئذ وكان قد مر به قوم من مصر في حال الهدنة، فغدر بهم، فناشدوه الصلح، فقال ما فيه استخفاف بالنبي صلى اللهُ عليه وسلم وقتلهم، فاستحضر صلاح الدين الملوك، ثم ناول الملك جفري شربة جلاب ثلج، فشرب، فناول أرناط، فشرب، فقال السلطان للترجمان: قل لجفري: أنت الذي سقيته، وإلا أنا فما سقيته، ثم استحضر البرنس أرناط في مجلس آخر وقال: أنا أنتصر لمحمد صلى اللهُ عليه وسلم منك، ثم عرض عليه الإسلام فأبى، فحل كتفه بالنيمجاه، وافتتح عامه ما لم يفتحه ملك، وطار صيته في الدنيا، وهابته الملوك. قال ابن كثير: "كان السلطان صلاح الدين من أشجع الناس وأقواهم قلبًا وبدنًا مع ما كان يعتري جسمه من الأمراض والأسقام، ولا سيما وهو مرابط مصابر مثابر عند عكا، فإنه كان مع كثرة جموعهم وأمدادهم لا يزيده ذلك إلا قوة وشجاعة، وقد بلغت جموعهم خمسمائة ألف مقاتل ويقال: ستمائة ألف، وكان جملة من قُتل منهم مائة ألف مقاتل، ولما انفصل الحال وتسلموا عكا وقتلوا أكثر من كان بها، وساروا برمتهم نحو بيت المقدس جعل يسايرهم منزلة منزلة ومرحلة مرحلة وجيوشهم أضعاف أضعاف من معه، ومع هذا نصره الله، وخذلهم، وأيَّده وقتلهم، وسبقهم إلى بيت المقدس فصانه وحماه وشيد بنيانه، ولم يزل بجيشه مقيمًا به، يرهبهم، ويرعبهم ويكسرهم، ويأسرهم، حتى تضرعوا إليه وخضعوا لديه ودخلوا عليه أن يصالحهم ويتاركهم وتضع الحرب أوزارها بينهم وبينه، فأجابهم إلى ما سألوا على الوجه الذي أراده لا ما يريدونه، وكان ذلك من جملة الرحمة التي خص بها المؤمنون". وكان رحمه الله سخيًّا، كريمًا، حبيبًا، ضحوك الوجه، كثير البشر، لا يتضجر من خير يفعله، شديد المصابرة والمثابرة على الخيرات والطاعات. قال العماد: أطلق في مدة حصار عكا اثني عشر ألف فرس، وما حضر اللقاء إلا استعار فرسًا، نزَّه المجالس من الهزل، ومحافله آهلة بالفضلاء، حليمًا، مقيلًا للعثرة، تقيًّا، نقيًّا، وفيًّا صفيًّا، يُغضِي ولا يغضب، ما رد سائلًا ولا خَجَّل قائلًا، كثير البر والصدقات. قال الموفق عبد اللطيف: أتيت صلاح الدين بالقدس فرأيت ملكًا يملأ العيون روعة، والقلوب محبة قريبًا بعيدًا سهلًا محببًا وأصحابه يتشبهون به، يتسابقون إلى المعروف كما قَالَ تَعَالَى: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا} [الحجر: 47] وأول ليلة حضرتُهُ وجدت مجلسه حافلًا بأهل العلم يتذاكرون وهو يحسن الاستماع والمشاركة ويأخذ في كيفية بناء الأسوار وحفر الخنادق ويأتي بكل معنى بديع، وكان مهتمًّا في بناء سور بيت المقدس وحفر خندقه ويتولى ذلك بنفسه وينقل الحجارة على عاتقه ويتأسى به الخلق. اهـ. وكان السلطان صلاح الدين متقللًا في ملبسه ومأكله ومشربه ومركبه، فلا يلبس إلا القطن والكتان والصوف، ولا يعرف أنه تخطى مكروهًا بعد أن أنعم عليه بالملك بل كان همه الأكيد ومقصوده الأعظم نصر الإسلام وكسر الأعداء اللئام، ويعمل فكره في ذلك ورأيه وحده مع من يثق برأيه ليلًا ونهارًا، سرًّا وجهرًا، ومع هذه الفضائل والآداب، فقد كان مواظبًا على الصلوات في أوقاتها جماعة، يقال إنه لم تفته الجماعة في صلاة قبل وفاته بدهر طويل حتى ولا في مرض موته، بل كان يدخل الإمام فيصلي به، فكان يتجشم القيام مع ضعفه، وكان رقيق القلب سريع الدمعة، وكان يحب سماع القرآن العظيم ويواظب على سماع الحديث حتى إنه سمع في بعض المصافات جزءًا وهو بين الصفين للقتال وكان يقول: هذا موقف لم يسمع أحد في مثله حديثًا. قال ابن كثير: "وفي سنة (589هـ) اشتد به المرض ثم حصل له عرق شديد بحيث نفذ إلى الأرض، وعندما ظهرت مخايل الضعف الشديد وغيبوبة الذهن في بعض الأوقات استدعى الشيخ أبا جعفر إمام الكلاَّسة ليبيت عنده يقرأ القرآن ويلقنه الشهادة إذا جد به الأمر، فذكر أنه كان يقرأ عنده وهو في غمرات الموت: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} [الحشر: 22] فقال: وهو كذلك صحيح، فلما أذن الصبح جاء القاضي الفاضل فدخل عليه وهو في آخر رمق، فلما قرأ القارئ: {لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} [التوبة: 129] تبسم، وتهلل وجهه وأسلم روحه إلى ربه، ومات رحمه الله وأكرمه وجعل جنة الفردوس مأواه، وكان له من العمر سبع وخمسون سنة، فقد كان ردءًا للإسلام، وحرزًا وكهفًا من كيد الكفرة اللئام، وكان أهل دمشق لم يصابوا بمثل مصابه، وود كل منهم لو فداه بأولاده وأحبابه وأصحابه، وغلقت الأسواق، وأخذ الناس في البكاء". وكانت وفاته بقلعة دمشق بعد الصبح من يوم الأربعاء السابع والعشرين من صفر سنة تسع وثمانين وخمس مئة، قال الذهبي: فوجد الناس عليه شبيهًا بما يجدونه على الأنبياء، وما رأيت ملكًا حزن الناس لموته سواه، لأنه كان محببًا، يحبه البر والفاجر، والمسلم والكافر، ولقد صدق العماد في مدحه حيث يقول: وَلِلنَّاسِ بِالمَلِكِ النَّاصِرِ الصَّلَا صورة ***حِ صَلَاحٌ وَنَصرٌ كَبِيرُ صورة هُوَ الشَّمسُ أَفلَاكُهُ فِي البِلَا صورة *** دِ وَمَطلَعُهُ سَرْجُهُ وَالسَّرِيرُ صورة إِذَا مَا سَطَا أَو حَبَا وَاحتَبَى صورة *** فَمَا اللَّيثُ مِن حَاتِمٍ مَا ثَبِيْرُصورة قال العماد وغيره: لم يترك في خزانته من الذهب سوى دينار واحد، وستة وثلاثين درهمًا، وقال غيره: سبعة وأربعين دينار، ولم يترك دارًا ولا عقارًا، ولا مزرعة، ولا بستانًا، ولا شيئًا من أنواع الأملاك، وإنما لم يخلف أموالًا، ولا أملاكًا لكثرة عطاياه وهباته وصدقاته وإحسانه إلى أُمرائه ووزرائه وأوليائه حتى إلى أعدائه. وكتب القاضي الفاضل تعزية إلى صاحب حلب ابن صلاح الدين الأيوبي: قَالَ تَعَالَى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21] وقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيم} [الحج: 1] كتبت إلى مولانا الملك الظاهر أحسن الله عزاءه وجبر مصابه وجعل فيه الخلف من السلف في الساعة المذكورة وقد زلزل المسلمون زلزالًا شديدًا، وقد حضرت الدموع المحاجر وبلغت القلوب الحناجر، وقد ودعت أباك مخدومي وداعًا لا تَلَاقِيَ بعده، وَقَبَّلْتُ وَجْهَهُ عَنِّي وعنك وأسلمته إلى الله وحده مغلوب الحيلة، ضعيف القوة، راضيًا عن الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وبالباب من الجنود المجندة والأسلحة المغمدة ما لم يدفع البلاء ولا ما يرد القضاء، تدمع العين، يخشع القلب، ولا نقول إلا ما يرضي الرب: وإنا على فراقك يا يوسف (صلاح الدين) لمحزونون". وَالحَمدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحبِهِ أَجمَعِينَ.
المصدر: سير أعلام النبلاء