ورد في الحديث الشريف فضل كبير في تلاوة سورة الكهف كل جمعة، ومعلوم أنّ هذه السورة تحوي أربع قصص مشهورة، قد يُفهم من الترغيب بتكرار تلاوتها إسبوعياً أهمية خاصة في حياتنا، سنتناول في هذا المقال قصة الرجلين من جانب لم يُتطرق له كثيراً.
المتتبع لشروحات وتفاسير الوعاظ والمفسرين لهذه القصة، سيلحَظ تركيزاً كبيراً منهم على جانب الإيمان والكفر فقط، وقد يكونوا أغفلوا جانباً آخر لا يقل أهمية عن ذلك. فما هو يا ترى؟ يستهل تعالى القصة بالإشارة إلى أنّها مثل، ويمكن أن نفهم ذلك بلغتنا الحالية أنّ القصة التالية هي "مثال محلول" لنقاشٍ وخلافٍ سيواجه الإنسان بشكل متكرر على مرّ العصور، ما هو هذا الخلاف؟.
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا (32) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آَتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا (33)
يستفتح تعالى هذا المثل بوجود رجلين اثنين، أعطى أحدهما جنتين من أعناب وأشجار نخل وزرع وثمر، وفجر خلالها نهراً من الماء، واستخدم تعالى الضمير (نا) الدال بوضوح على أنّه الصانع لتلك النعمة، نعمة تكاد لا تجد إنساناً لا يرجوها قديماً أو حديثاً، ويفهم من السياق ضمنياً أنّ الرجل الثاني لم يعطَ هذه النعمة، إذاً الموضوع باختصار هو "نظرة الغني للفقير، ونظرة الفقير للغني"، ومن منّا لا يخالط يومياً من هو أغنى أو أفقر منه، ومن هنا تأتي أهمية تخصيص هذا المثل، القرآن لم يُعر اهتماماً لزمان هذه القصة أو مكانها، ما قد يشير إلى أنّ العبرة بالمحتوى والمضمون بالدرجة الأولى، فلنركز عليه أكثر.
وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا (34) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا (35) وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا (36)
انتقل تعالى للجزء الثاني من القصة وهو "موقف الرجل الغني من غناه" أي من النعمة، يرويه للرجل الفقير، في تحاور بينهما، قبل ذلك لفت تعالى انتباهنا إلى أنّ الجنتين حملتا ثمراً، وبالتالي حان موعد القطاف والجني، إذاً الرجل الغني في أوج غناه وقوته المالية، استفتح الرجل الغني كلامه بكلمة (أنا .. أكثر منك مالاً وأعز نفرا)، ولك أن تتخيل شعورك النفسي وأنت فقير معدم، وغني يستفتح حديثه معك بأنّه أغنى منك، وحوله أكثر ممن حولك !! واضح جداً الاغترار بنعمة الله، كما أنّه لم يراعي مشاعر الفقير مطلقاً، ودخل الغني جنتيه وهو مغترٌ بما حوله من مظاهر مادية، ولا يتخيل البتة أن تفنى جنتيه أو تذهبا، ويبدو من شدة إعجابه بجنتيه، أشركهما مع الله، فاستبعد قيام الساعة التي ستفني جنتيه، وإن قامت الساعة وأفنت جنتيه، فإن ربه سيعطيه يوم القيامة خير منهما، ظاناً أن ما أعُطيه من نعمة كرامة ومكافأة، لا اختبار وامتحان!
قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا (37) لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا (38) وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا (39)
ثم انتقل القرآن الكريم لردة فعل الرجل الفقير على الغني المتكبر، ولا ننسى الطريقة التي استصغره فيها، فسأله الفقير مستنكراً، أكفرت بمن خلقك وخلق جنتيك، أيُعقل أن تشرك الجنتين بالله العظيم، أليس الأجدر بك لو شكرت نعمته تعالى، ثم قال له جملة ملفتة، غيرت اتجاه الحديث من دعوي إلى شخصي، قال: "إن ترن أنا أقل منك مالاً وولدا"، وكأنه يذكّره من ناحية بحال غيره من الفقراء وحاله من الغنى، ومن ناحية أخرى يبدو أنّه تأثر من تعالي واستحقار الغني له وتصغيره، وهذا يبدو جلياً في الآية التالية مباشرة.
فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا (40) أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا (41)
قال الفقير بعد ذلك بشكل شخصي، عسى (والتي تفيد الترجي في الأمر المحبوب) أن يعطيني الله خير من هاتين الجنتين، ويحلّ الخراب بجنتيك أو ينقطع الماء عنهما.
وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا (42)
والآن كيف كانت النهاية؟ يبدو أن دعاء الرجل الفقير قد استُجيب، والملفت أنّ العقاب ذكر بكلمتين اثنتين فقط (وأحيط بثمره)، بينما فصّل تعالى مزايا الجنتين في آيتين بخمس صفات، ما قد يشير لسرعة الدمار الحاصل.
قد يبدو للكثيرين أن القصة القرآنية انتهت هنا، لكن قد تكون هذه النهاية بداية لقصة جديدة لم يخبرنا بها القرآن الكريم، إذ إن الرجل الغني حزن حزناً شديداً على ما أنفق من مال في الجنتين، ثم كأنّه استيقظ من سباته العميق، وندم على إشراك جنتيه مع الله تعالى، ولا ندري هل تاب وصار مؤمناً حقاً أم لا، لكن الواضح أنّه ندم، وأيضاً لا نعلم هل استجاب الله للفقير وأعطاه خيراً من جنة الغني كما طلب أم لا، والأهم من هذا وذاك، لا نعلم هل وقع الفقير بنفس الفخ الذي وقع به الغني؟ أم تجاوز الاختبار بنجاح، يبدو أنّ القرآن ترك الباب مفتوحاً لكل الاحتمالات، فمن الناس من ينجح بالاختبار ومنهم من يفشل، ولا حكمة من معرفة نجاح أو فشل ذلك الرجل الفقير على وجه التخصيص، إن افترضنا استجابة دعائه.
وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا (43) هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا (44)
لم يُغفِل القرآن الكريم في هذا المثال المحلول الإشارة بعجالة إلى أنّ حاشية ذلك الغني المغرور (وأعز نفرا)، والمتوقع أن تكون حاشية منافقة، سرعان ما تخلت عنه وعن نصرته، وتركته وحيداً حينما انتزع الله ما لديه من مال وأملاك، ولا ندري أتخلى عنه الرجل الفقير أيضاً؟ أم بقي يكنّ له المحبة والوفاء، وختم تعالى بأنّ الولاية له وحده فقط تفيد في ذلك الموقف، ووحده تعالى خير ثواباً وخير عاقبة.
هذا هو الهيكل العام لأي خلاف فكري حصل وسيحصل بين الغني والفقير .. بغض النظر عن مآلات الرجلين في هذه القصة تحديداً، وهو خلاف فكري نفسي بحت، لا خلاف مصالح أو صراع قوى، فالغني أكثر مالاً وأعز نفراً، والفقير أقل مالاً وولدا، فكيف يكون خلاف سوى فكري ههنا.
نلاحظ أن القرآن الكريم انتقل مباشرة بعد هذه القصة، وكأنه يوجّه الحديث للغني والفقير معاً، ولكل حالم بتلك الجنة الدنيوية، فضرب مثل الحياة الدنيا، وهي نموذج مكبّر للجنّتين، كنبات أنتش ثم نما ثم ذبل ومات واندثر، وكشف لنا تعالى سرّ العاملين الأساسيين في ذلك الفخ الذي وقع في شِراكه الغني وهما، المال والحاشية من أولاد ورجال وغيرهم، أما الباقيات الصالحات فهي خير من ذلك وأبقى.
الغِنى المالي؛ هو ابتلاء من الله واختبار، تماماً كالفقر، بل قد يكون أشد صعوبة منه، إما أن يفشل فيه الإنسان أو ينجح، ويبدو أنّ أغلب الناس تفشل فيه، قال تعالى "إنّ الإنسان ليطغى أن رأه استغنى" فيجب على كل غني أن يكون حذر من نفسه أولاً، ثم من الآخرين خاصة الفقراء، فخطر الغِنى على النفس يكون بإشراك النعمة مع الله، وعلى الفقراء باحتقارهم أو تصغيرهم بقصد أو بدون قصد، وهذا ظلم للنفس أو للآخرين، سرعان ما تأتي العقوبة إن استفحل الأمر.
وهنا نسأل، هل كان الغني يعلم بجحوده للنعمة قبل أن يحاط بجنتيه؟ أم كان يعيش في عالم آخر، كالعاشق الولهان الذي استحوذت محبوبته على قلبه فلم يعد يرى سواها، وغشّت عيناه غشاوة فعَميت بصيرته، اعلم أنّ الضلال يتم ببطءٍ وانسياب، ومن أراد أن يعرف حجم ضلاله فعليه بمراقب خارجي يقيّم أفعاله وسلوكه، وألا يترك ذلك لنفسه التي ظلمها وقمعها فأصبحت كالعبد الذي لا يرفض طلباً لمولاه، ويجيب بما يحب ويهوى.
أيها الغني المغرور، انتبه لنفسك جيداً وراقبها، وإياك أن تغْفُل عنها لحظة واحدة، أنت في أخطر مكان يمكن أن تتخيله في حياتك، جنتك هذه هي جنّة اختبار وامتحان، لا جنّة جزاء واستقرار، فاجعل منها منطلقاً للجنّة الحقيقة، ولا تشركها مع الله في قلبك، فتخسر وتفشل في الاختبار، فاستدرك ما فاتك قبل فوات الآوان.
أما أنت أيها الفقير الحالم بجنّة من تلك الجنان، فأهلا وسهلاً بك في حقل من الألغام، أهلا وسهلا بك في محرقة الأولين والآخرين، أهلا وسهلا بك في أصعب اختبار يختبر به الله عباده ليميز خبيثهم من طيبهم، أوافقك أنّ تلك الجنّة مغرية، والكل يبحث ويفتش عنها، لكنّ اعلم أنّ قلة قليلة تجتازها بسلام، فهل مازلت مستعداً لذلك الاختبار؟! هنيئاً لمن اجتازها بسلام، جنّة في الدنيا، وخير منها في الآخرة، ولا يجمع هذه وتلك إلا ذو حظ عظيم.