ترسخ في أذهان العامة من المسلمين أن رمضان شهر بطالة لا عمل، بل كثيرة هي مصالح العباد التي تتعطل في بلاد المسلمين ونحن على رأسهم ـ ولا فخر ـ بحجة أن رمضان لا يساعد على العمل، وتصبح الإدارات العمومية في عطلة غير رسمية ، وكل الالتزامات ومصالح الناس تتأجل إلى حين؛ والواقع أن رمضان شهر الجد والعمل تحقيقا لمعنى مجاهدة النفس، فيقترن الجهادان: جهاد النفس بكبح شهواتها ومألوفاتها، وجهاد بناء الأمة كل في اختصاصه، وحسب الثغر الذي يقف عليه.
هكذا كان حال الرعيل الأول من الصحابة الذين تربوا وتعلموا بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم، فكانت حياته منذ البعثة وإلى أن اختار جوار ربه جهادا دائما متواصلا، لا يكاد ينهي مهمة جهادية من أبواب الجهاد الذي يعتبر القتال بابا منه فقط، ليشرع في أخرى، دون تمييز بين صيف وشتاء، بل إن الغزوات الحاسمة دارت وقائعها في شهر رمضان، وغزوة بدر الكبرى وقعت في أول رمضان يفرض على الأمة، فما تلكأ المسلمون بحجة أن هذه أول تجربة في الصيام، ويجب توفير الظروف المناسبة لتثبيت هذه العبادة الجديدة في المجتمع.
إنها تربية الجندية القائمة على التضحية والبذل رسخها رسول الله صلى الله عليه وسلم في النفوس، وأعطى فيها المثل الأعلى، فجاء النصر والتمكين للأمة في زمن قياسي، وهو منهاج نبوي سطرته السيرة النبوية، واجتهد علماء المسلمين ومجددوا الأمة عبر التاريخ في التذكير به ورسم معالمه، ليكون نبراسا للأمة تنسج على منواله، وتقتفي آثاره، ليكون لها من النصر ما كان لأسلافنا؛”فالسيرة النبوية العطرة هي نموذج القومة ووصفها ومدرستها.عليك في عصرك ومصرك وظروفك وحظك من الله وقوة من معك من حزب الله، قوة الإيمان قبل قوة العدد، أن تترجمها واقعا حيا تتعرض به لأمر الله…” (1)
في هذا السياق التذكيري، يأتي تناول موضوع فتح مكة الذي أكرم الله تعالى به رسوله صلى الله عليه وسلم والمسلمين في شهر رمضان، لنستخلص منه العبر والدروس استشرافا لغد الإسلام المرتقب، الذي نعد صبحه قريبا إن شاء الله: “أليس الصبح بقريب؟”.
خصائص فتح مكة: إذا كانت ثمة مميزات خاصة لغزوة بدر، ومنها أنها أول ظهورعسكري للمسلمين، فيه الكثير من المغامرة والمخاطرة، نظرا لتفاوت ميزان القوة بين المسلمين الذين كانوا في مرحلة البناء والإعداد لكيانهم الجديد، وبين قريش التي رأت في المناوشة فرصة لاستئصال المسلمين والقضاء عليهم نهائيا؛لكن العناية الإلهية تدخلت، وساقت للمسلمين القلة عددا وعدة نصرا تاريخيا، كانت الدعوة في أمس الحاجة إليه، لتكتسب موقعا وهيبة في الساحة الإقليمية ـ كما يعبر عنه بلسان العصر ـ يضمن لها البقاء والاستمرار.من جهة أخرى تتجلى خصائص غزوة بدر الكبرى في الأسس التربوية والتعبوية التي تلخص شروط النصر، كما تفصلها سورة “الأنفال”.
من هنا تعتبر غزوة بدر مدرسة تربوية وتعبوية للمسلمين وهم في مرحلة الإعداد، وتأتي غزوة فتح مكة لترسم لنا معالم مرحلة التمكين وكيفية التعامل مع الخصوم والأعداء، وتسمو بالمسلمين -وهم أصحاب رسالة ودعوة للعالمين- عن الحسابات الضيقة، والزج بالعباد والبلاد في متاهات تبذر الجهود والطاقات والوقت، عوض صرفها في البناء، وتهيء الظروف لتدخل الأجنبي.
أما على المستوى الدعوي والسياسي والعسكري، ففتح مكة كان مطلبا حيويا، لما لقريش من وزن إقليمي، دينيا باعتبارها محج القبائل العربية، وصدها للإسلام يجعل دخول العديد من القبائل متعذرا بحكم علاقاتها مع قريش، واقتصاديا باعتبار مكة محورا تجاريا، وممرا أساسيا بين شمال شبه الجزيرة والشام، لهذه العوامل ظلت قريش”وفية” لموقفها العدائي للإسلام، وكانت الطرف الأقوى في جميع المخططات للنيل منه.
إذن ففتح مكة معناه القضاء على العدو التاريخي للإسلام، وتحرير شبه الجزيرة العربية من الوصاية القرشية، ولا عجب إذا تسارعت وتيرة اعتناق الإسلام، ودخل الناس في دين الله أفواجا بعيد الفتح، يقول ابن القيم: “هو الفتح الأعظم الذي أعز الله به دينه ورسوله وجنده وحزبه الأمين، … وهو الفتح الذي استبشر به أهل السماء، ضربت أطناب عزه على مناكب الجوزاء، ودخل الناس به في دين الله أفواجا..”(2)
اعتبارات رمزية لا تقل أهمية كون مكة قبلة المسلمين، ومنطلق الدعوة التي يحن لها رسول الله صلى الله عليه وسلم والمهاجرين، عوامل كلها تجعل فتح مكة في الاستراتيجية النبوية مسألة وقت وتهيؤ ظروف ذاتية وموضوعية.
سياق فتح مكة ومراحله: يتفق الدارسون على أن مواجهة عسكرية حاسمة ومعركة فاصلة باتت وشيكة بين قريش التي نفذ صبرها بعد تنامي قوة المسلمين التي غدت تطوق نفود قريش، وجاء قرار رسول الله صلى الله عليه وسلم لقضاء العمرة في السنة السادسة للهجرة ليضع قريش في حرج كبير، لا سيما والمسلمون لم يخرجوا لقتال، فهم في شهر ذي القعدة الحرام، يسوقون الهدي، ولا يحملون السلاح؛الأمر الذي انتهى بتوقيع معاهدة صلح الحديبية، اعتبره القرآن فتحا مبينا كما سماها في سورة “الفتح”، وقد وفرت معاهدة صلح الحديبية أسباب فتح مكة بشكل غير مباشر من خلال البند الثالث الذي يقول: ” من أحب أن يدخل في عقد محمد (نقول صلى الله عليه وسلم) وعهده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه، وتعتبر القبيلة التي تنضم إلى أي الفريقين جزءا من ذلك الفريق، فأي عدوان تتعرض له أي من هذه القبائل يعتبر عدوانا على ذلك الفريق.”
بمقتضى هذا البند دخلت قبيلة خزاعة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودخلت قبيلة بني بكر في عهد قريش، وكان بين القبيلتين عداوة وثأر كبيرين، فأمنت كل منهما نفسها بهذا التحالف، لكن بني بكر استقوت على خزاعة بقريش ومكانتها بين العرب فأصابت منها ثأرا قديما، وقتلت منهم رجالا، وتورطت قريش في العدوان بسلاحها ومقاتليها؛ فسارعت خزاعة تستـنجد برسول الله صلى الله عليه وسلم، وتطالب بتفعيل اتفاقية الدفاع المشترك.
هكذا تكون قريش قد جنت على نفسها، وهي تعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لن يتأخر في نصرة خزاعة، فسارع أبو سفيان لإنقاذ الموقف، في محاولة لاستغفال المسلمين، وتجديد معاهدة الصلح، مثلما سارع الرسول صلى الله عليه وسلم لتأديب قريش على غدرها، فالعدوان على خزاعة عدوان صريح على المسلمين، ولم تنجح محاولة أبي سفيان وعاد إلى مكة موقنا بمواجهة عسكرية مع المسلمين الذي نمت قوتهم بشكل سريع خلال سنتي الصلح.
خرج المسلمون قاصدين مكة، بعد استكمال الترتيبات في سرية تامة، والمحاولة الوحيدة لإبلاغ قريش الخبر تدخلت العناية الإلهية لفضحها ، فقد أوحى الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم أن حاطبا بن أبي بلتعة كتب كتابا ينذر فيه قريشا، وبعثه مع امرأة تكلف سيدنا علي والمقداد باقتفاء أثرها واسترجاع الكتاب قبل أن يقع بيد قريش فتستعد للمواجهة.
كان خروج المسلمين في العاشر من رمضان سنة 8هـ، في عشرة آلاف فارس، قطعوا المسافة مناورين، متسترين ليباغتوا قريشا في عقر دارها، التي استسلمت في شخص زعيمها أبي سفيان الذي جيء به من طرف العباس بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم، وأمنه على نفسه وقومه ما لم يتعرضوا للمسلمين وهم يدخلون مكة، هكذا -والتفاصيل في كتب السيرة النبوية- تم الفتح، ودخل المسلمون البيت الحرام صباح اربعاء السابع عشر من رمضان 8هـ ، آمنين مطمئنين محلقين رؤوسهم كما أخبرهم صلى الله عليه وسلم قبل سنتين برؤيا رآها أشارت إليها سورة الفتح: “لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق، لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رؤوسكم ومقصرين لا تخافون، فعلم ما لم تعلموا، فجعل من دون ذلك فتحا قريبا” (آية:27).
مواقفه صلى الله عليه وسلم وأعماله يوم الفتح ودلالاتها: 1. مراعاة لمكانة أبي سفيان في قومه أمن كل من يدخل داره، تكريما لأبي سفيان الذي لم يشهد بعد بنبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الآن.
2. ” اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الحرمة، اليوم أذل الله قريشا.” عبارات رددها سعد وهو حامل لواء في وجه أبي سفيان، فاشتكى لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمر بنزع اللواء من سعد وإسناده لابنه قيس، وفيه حكمتان: أولهما أن المسلمين جاؤوا فاتحين حاملين الدعوة لا منتقمين ولا طالبين الثأر، وإبقاء اللواء في آل سعد إجبار لمشاعره التي قد تتأثر.أما رسول صلى الله عليه وسلم فقد علق على كلام سعد قائلا:” بل اليوم يوم تعظم فيه الكعبة، اليوم يوم أعز الله فيه قريشا.”
أجل عظمت الكعبة بدخول رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين فاتحين، وأعز الله قريشا بدخولها الإسلام، بأبي أنت وأمي يارسول الله ، إنك لعلى خلق عظيم، خلق وبعد نظر يؤسس لمستقبل الإسلام، ينخرط في بنائه عدو الأمس في إطار أخوة الإسلام.
3. أمر صلى الله عليه وسلم المسلمين الدخول من جميع منافد مكة تجنبا لنشر الرعب وبسطا للسيطرة على الوضع تفاديا لإراقة الدماء.
4. دخل صلى الله عليه وسلم مطأطئ الرأس تواضعا لله الذي أكرمه بفتح مكة بعد أن خرج منها متخفيا.
5. طاف صلى الله عليه وسلم بالبيت الحرام واستلم الحجر الأسعد وصلى داخل الكعبة، في إشارة لفتح مكة رسميا، وهو يزيح الثلاثمائة وستين صنما طعنا بالقوس.
6. خطب صلى الله عليه وسلم في قريش مستهلا كلامه بمطلع آية في الدقة والبلاغة:” لا إله إلا الله وحده لا شريك له، صدق وعده، ونصرعبده، وهزم الأحزاب وحده..” وبعد عرض أسس الإسلام، أعلنها مدوية في جنبات مكة:” لا تثريب عليكم اليوم” اذهبوا فأنتم الطلقاء..
7. أبقى صلى الله عليه وسلم مفتاح الكعبة لمن كان عنده قبل الفتح وسلمه لعثمان بن طلحة.
8. أذن بلال للصلاة، وأطلع الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بما تحدث به أبو سفيان ورفقاؤه، ولما ذكر لهم ذلك اقتنع أبو سفيان فأعلن شهادته كاملة هذه المرة.
9. اغتسل صلى الله عليه وسلم وصلى صلاة الفتح والشكر ثماني ركعات.
10. أهدر صلى الله عليه وسلم دماء أكابر المجرمين، وأمر بقتلهم حيثما كانوا، غير أن أغلبهم نالوا العفو.
11. بايع أهل مكة رسول الله معلنين دخولهم لـلإسلام.
12. عفا عن هند زوج أبي سفيان لتنكيلها بحمزة رضي الله عنه.
13. أشرف صلى الله عليه وسلم على هدم الأصنام بضواحي مكة.
دروس وعبر: لقد جاءت غزوة فتح مكة حبلى بالدروس والعبر، نحن اليوم أكثر من أي وقت في أمس الحاجة إليها حتى لا تزيغ بنا الأقدام عن الجادة، ومن هذه الدروس والعبر:
1. موافقة تاريخية طريفة تتمثل في وقوع الغزوتين الحاسمتين: بدر وفتح مكة في نفس اليوم من شهر رمضان الأبرك، ليكون بذلك شهر النصر والفتوحات الإسلامية.
2. حضور الغيب من خلال الرؤيا التي رآها صلى الله عليه وسلم تبشر بالفتح التي استعجله الصحابة في السنة السادسة للهجرة، ولأهمية الغيب وحرمة الرؤيا حري بنا مراعاة آدابها بعدم التعسف في التأويل.
3. بعد النظر في استشراف المستقبل، فقد غضب سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه وغيره من كبار الصحابة لما تضمنه صلح الحديبية من ذلة للمسلمين في نظرهم، ولم تطمئن القلوب حتى نزل القرآن يعتبر الصلح فتحا.
4. اغتنام فرص الهدنة والصلح لاستكمال البناء وتوسيع دائرة التعاطف والتحالف حماية للدعوة والمشروع، تفاديا لتكالب قوى الباطل على الدعوة.
5. اعتماد كل أشكال التمويه والتضليل لمباغتة الخصوم والأعداء.
6. اليقظة التامة لحماية الصف من أي اختراق، والمعول مع ذلك على الرعاية الربانية للدعوة وتأييدها بالوحي أو الرؤيا أو تنوير البصيرة بشرط:” إن تنصروا الله ينصركم”.
7. إنزال الناس منازلهم، فالتمكين لا يسقط عزة العزيز، ضمانا لانخراطه برمزيته في المشروع.
8. تفويض الأمر لله تعالى، فالنصر منه وبه، ومن تواضع لله رفعه، ونعوذ بالله من الاغترار والعجب.
9. لكل موقف عبادة، وللفتح والنصر صلاته:ثماني ركعات.
10. إهدار دم مجرمي الحرب ومنهم مغنيتان كانتا تتغنيان بهجوه صلى الله عليه وسلم، ثم العفو على أغلبهم فيما يسمى مصالحة لفتح باب المستقبل يشارك في أعبائه الجميع.
خلاصـة: تبقى غزوة فتح مكة حدثا بارزا بكل المعاييرفي تاريخ الإسلام، ذلك أنها أسست لمرحلة الظهور التام للدعوة، حيث بدأ الناس يدخلون في دين الله أفواجا، حدث هذه قيمته، كانت بذرته الأولى في صلح الحديبية، ونمت واستوت البذرة خلال سنتين من البناء والتعبئة الدائمة بتكوين قاعدة صلبة تتبنى المشروع وتنزله في الواقع منجزات متكاملة تفتل في حبل الأمة، الكل يعمل، يشارك، يقترح، يبادر، ينصح، يوجه، يرعى، يحتضن، يدعو في جوف الليل للأمة بالتوفيق والسداد؛فكيف لا تنتصر.
فاللهم تنزل علينا بنصرك وتوفيق وسدد مع النصر خطواتنا، وثبت مع النصر قلوبنا بذكرك وحسن الإخبات إليك.
هــوامـش:
1. سنة الله ص:300 للأستاذ عبد السلام ياسين.
2. زاد المعاد ج2، ص:160 لابن القيم.
المصدر موقع aljamaa.ne